كتب يوسف الشايب:
و"اختلطت عليك الخيلُ"، هو عنوان المجموعة الشعرية الأحدث للشاعر خالد جمعة، ويرصد عبر قصائدها مشاهد وحكايات وتداعيات شعوريّة من وحي حرب الإبادة المتواصلة في قطاع غزة، حيث ولد وعاش طفلاً ويافعاً وشاباً، مختصراً ما أراده منها بنص على الغلاف الخلفي، قال فيه: "ماذا تفعلُ كلّ هذا الوقت؟.. أُخرج كلمة من فم ولدٍ مات قبل أن يقولها.. وماذا كانت؟.. لا لغة تحتملها.. لماذا أخرجتها إذن؟.. خفتُ أن تذهب معه إلى الله فيُقيم القيامة".
وفي أمسية إطلاقها، بمقر دار طباق للنشر والتوزيع، ناشرتها، بمدينة البيرة، قبل أيام، تحدث جمعة حول عنوانها، فأشار إلى العرب قديماً، وكما يُقال، كان "إذا اختلطت عليها الأصيل من الخيل بغيره، جمعتها في مكانٍ واحدٍ، وضربتها، وأهانتها، وتركتها قليلاً، ثم أتت لها بالماء، من تتقدّم منها لتشرب يعرفون أنها خيول غير أصيلة، لأن الخيل الأصيلة تمتنع عن شرب الماء حين تُهان"، مضيفاً: نحن في زمن اختلطت فيه علينا الخيل، خاصة أن الكثير من حملة الشعارات الكبيرة، يغيّرون ويُبدلون أقوالهم على أرض الواقع، أو في الميدان".
في تقديمه للمجموعة، قال الشاعر وليد الشيخ: ذهب خالد جمعة إلى قَصيدة النثر، الابنة الشرعيّة والمطرودة من المتن، مدركاً أَنها منَ البنات اللَاتي لا يَعُدْن إلى البيت بعد انتهاء الدوام المدرسي. التقط يدها في شوارع غزةَ، بفطنته ودهاء معرفته الباهظَة، أَغلق الباب على اجتراحات الخَليل بن أَحمد، لكنّه قبل أَن يُغادر، رمى في وجه سدنة اللغة وحرّاس الموروث، كَطاووس نبيل لامع، تركَ رِيشه يرف، مضيفاً: يدرك خالد جمعة، أَنّ المدينة التي جاء منها والشوارع التي نهبت من شقاوته، والقصائد الأُولى التي اقترفها غير آبهٍ بالموروث المُقدّس شِعْراً ونثراً، يُدرك أَنّ كُلّ ذَلك حرَثته صواريخ الإبادة، وأَخذت الأَصدقاء والبيت والرّائحَة، تركتْ أَثلاماً في الرُوح، ووجعاً بَعيداً سيظلّ عالقاً في لغته وإيقاعاته وهواجسه التي ترّف مثل راية حداد خلف حائط البيت، الشابورة.
وتابع الشيخ: عندما ألتقيه، يبدأ بسرد أسماء شعراء قدامى، سقطوا من المنهاج، ودون مقدمات يستعين بذاكرته الواسعة بمطالع تبهج القلب، وحين نختلف، وإنا والحق يقال، نختلف كثيراً، يبدأ بلهجته التي ترمي الفتحة على أواخر الكلمات، مطفئاً القاف كما يفعل الأهل في غزة، يأخذ السجال إلى الحوار، حتى وإن كان الاشتباك المترف بيننا حول الالتباس الفظ بين بحري الرمل والخفيف.. بيد أن الرجل الذي اعتاد على كتابة الرصانة، يفلت بعد الحرب، لتصبح مفرداته خفيفة، شقية، ومتقشفة، احترتُ في جرأته على الذهاب إلى الشوارع الفرعية والخلفية، هو الذي اعتاد على الأوتوستراد منذ سنوات.
ولفت الشيخ: في نصوصه منذ الحرب، تخفّف خالد جمعة من حقيبة مفرداته الثقيلة وإيقاع قصيدته باللونين الأبيض والأسود، أنزل القصيدة من عليائها وغرورها، ونسي نزق الشاعر الذي طالما رافق خطواته الأولى، مُتابعاً: أظن أن خالد جمعة، بحكمة العارف، يستطيع أن يفك اختلاط الخيل، هو الذي يعلم، أن الخيول الأصيلة لا تذهب لشرب الماء بعد تعنيفها، وأن خيول الأصدقاء تتبيّن من بياض نواياها الخالصة.
وخلص الشيخ إلى أن "غزة الذبيحة الآن، التي تعيش أيام القيامة حتى قبل أن ينفخ في الصور، وقبل أن يأذن الله، لا بد وأن تصحو عفية بهية"، مخاطباً صاحب "واختلطت عليك الخيلُ" بالقول: قصائدك يا خالد التي تجرح القلب، خادشة وقاحة الماء الآسن الذي امتد من ماء الأطلسي إلى ماء العرب، ستظل رفقة ألسنة المذبوحين تلهج بالمرارة والإدانة إلى الأبد.
وكان السؤال المُفتَتح: يا خالد جمعة قل لنا: ما الذي يستطيعه الشعر في شوارع غزة بعد أن قلت: "إن النصوص تتشقق لكثرة ما كتب الشعراء عن العطش"!
وهنا أجاب الشاعر جمعة: أعتقد أن نموذج طروادة في التاريخ الأدبي والجغرافي دليل على ما يُمكن للشِعر أن يفعله، فعلى ما أعتقد، أن موقع طروادة الجغرافي كمدينة لم يُكتشف إلى يومنا هذا، ونحن لم نعرفها إلا عبر أشعار هوميروس.
واستعار جمعة، في ذات الإطار، مقولة للإسباني بيب غوارديولا، مدرب نادي "مانشيستر ستي" الإنكليزي، حين تحدّث عن غزة بعد منحه الدكتوراه الفخرية: كان هناك عصفورٌ صغيرٌ، والغابة تحترق، وبينما كانت الحيوانات تفرّ منها، كان يذهب العصفور إلى النهر ويلتقط قطرة ماء ويلقيها على النار، فشاهده الثعبان وضحك مستهجناً، قبل أن يخاطبه بوضوح المتسائل المُستنكِر "هل تظن أن هذه القطرات ستطفئ النار؟"، فرد العصفور "متأكد أنها لن تطفئ النار، لكنّي أقوم بواجبي".
وأردف صاحب "واختلطت عليك الخيلُ": فكرة الكتابة عن غزة في هذه الظروف تقوم على كون أن لا شيء آخر يمكننا فعله، وهنا أستعيد ما قاله الشاعر المتوكل طه بأن الكتابة لا تحرّر غزة لكنها تُحرّرني، ففي نهاية المطاف يكفي أن يقوم مبدع أجنبي من مكان ما في العالم يتحدث عن الجوع، أو قصف الأطفال، أو ما يهمله الإعلام عادة، ويترجمه ويعمّمه، وهذا حصل كثيراً خلال حرب الإبادة المتواصلة على القطاع.. حاولتُ الإضاءة على ما لا يُرصد عادة، وهذا ما أستطيع فعله شِعراً.
وأهدى الشاعر خالد جمعة مجموعته الأحدث إلى "سليم النفار مختبئاً في القصائد"، وهو الشاعر الذي قضى شهيداً وأسرته، ولا تزال جثامينهم تحت الأنقاض منذ تشرين الأول 2023، مقدماً قصيدة له بعنوان "إلى سليم النفار، أينما كنت"، سبقها وتلاها عدد من قصائد المجموعة، بينها من تحمل اسمها، أي "واختلطت عليك الخيلُ"، و" اسمي عمر"، و"صديق فخور"، و"أيّها الحزن"، وغيرها من المجموعة التي ختمتها بعبارة شاعريّة، قال فيها: "قالت الحروبُ القديمة لابنتها الحرب: لقد أسأتِ إلى سمعتنا".
أخبار متعلقة :