في منطقة تعيش على وقع تحولات متسارعة، مثّل التقارب بين بغداد ودمشق مؤشرا جديدا على إعادة رسم الاصطفافات الإقليمية، لكنه في المقابل فجر سجالا داخليا في العراق كشف هشاشة التوازنات السياسية داخل البلاد والتوافق بين مكونات السلطة، لا سيما داخل "الإطار التنسيقي" الذي يدعم حكومة محمد شياع السوداني.
اللقاء الثلاثي الذي جمع السوداني بالرئيس السوري أحمد الشرع وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني في الدوحة، لم يكن حدثا بروتوكوليا عابرا، فتوقيته وسريته أثارا عدة تساؤلات بشأن أهدافه وتداعياته، خاصة في ظل حالة الانقسام الداخلي الحاد بشأن العلاقة مع النظام السوري.
وإذا كانت الحكومة العراقية تروج لهذا التقارب باعتباره خطوة في إطار رؤية أمنية إقليمية تهدف إلى ضبط الحدود ومحاصرة فلول داعش، فإن قوى سياسية وفصائل مسلحة موالية لطهران رأت فيه "مغامرة غير محسوبة"، خاصة أن الرئيس السوري لا يزال يواجه اتهامات قانونية تتعلق بمرحلة الحرب السورية، وتحديدا بدوره في دعم جماعات مسلحة تسللت عبر الحدود العراقية.
صراع الشرعية وتوازنات القوى
يرى مدير مركز بغداد للدراسات الاستراتيجية مناف الموسوي، أن الأمر لا يتعلق بلقاء دبلوماسي فحسب، بل يكشف عن "أزمة شرعية داخلية تُرحّل إلى الشارع".
وفي حديثه لبرنامج "التاسعة" على "سكاي نيوز عربية"، شدد الموسوي على أن "السوداني لا يتحرك ضمن مظلة توافق سياسي داخلي، بل يبدو كمن يحاول كسر القيود التي فرضت عليه داخل الإطار التنسيقي".
ويضيف: "بعض الزعامات الشيعية تنظر إليه على أنه موظف إداري أكثر منه قائد تنفيذي، وتخشى أن يعيد رسم صورته كزعيم مستقل، وهو ما قد يهدد التوازنات الانتخابية في المستقبل".
مأزق السلاح والفصائل
واحدة من أبرز إشكاليات القرار السيادي في العراق تبقى مرتبطة بوجود السلاح خارج مؤسسات الدولة، ففصائل مسلحة مؤثرة مثل كتائب حزب الله لا تخفي رفضها لأي تقارب مع النظام السوري لا يمر عبر بواباتها، وهو ما عبر عنه صراحة الناطق الرسمي باسمها أبو علي العسكري، الذي طالب الحكومة بخطة زمنية واضحة لإنهاء الوجود الأميركي، ملوحا بـ"سحب الثقة" من السوداني إذا واصل انفتاحه الإقليمي المنفرد.
في هذا السياق، يحذر الموسوي من أن السوداني يواجه "ضغوطا داخلية متزايدة تقيد هامش حركته، وقد تدفع المشهد نحو صدام سياسي مفتوح، خصوصا إذا قرر المضي قدما في خطواته دون غطاء كامل من قوى السلطة".
عقدة الشرع
ويشكل الجدل القانوني حول شخصية الشرع عقدة إضافية أمام حكومة السوداني، فبحسب تسريبات إعلامية، استخدم الرجل أسماء مستعارة خلال مراحل سابقة من وجوده في العراق، وصدرت ضده مذكرات توقيف محلية، مما دفع وزارة الخارجية العراقية إلى طلب توضيحات رسمية من القضاء بشأن قانونية استقباله أو مشاركته في أي قمة مقبلة داخل الأراضي العراقية.
هذا الجدل لا يعكس فقط تعقيدات الملف السوري في الداخل العراقي، بل يظهر أيضا ضعف التنسيق المؤسساتي بين السلطات التنفيذية والقضائية، ويطرح علامات استفهام حول قدرة الحكومة على ضبط التفاعلات القانونية في إطار تحركاتها الدبلوماسية.
بالنسبة لحكومة السوداني، فإن الانفتاح على دمشق يمثل خطوة استراتيجية في سياق أمن الحدود ومكافحة الإرهاب، لكنه في الواقع مشروط بإجماع داخلي مفقود، وتوازنات إقليمية دقيقة تحتم على بغداد أن تتحرك بحذر، فكل خطوة خارج مظلة التوافق قد تفجر صراعات مؤجلة، وتفتح أبوابا جديدة على أزمة الشرعية في الداخل العراقي.
0 تعليق