هل تتحول القواعد الرقمية لعقدة في مفاوضات واشنطن وبروكسل؟ - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

في الوقت الذي كان يُفترض فيه أن يشكل الاتفاق التجاري الأخير بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة خطوة نحو تقارب اقتصادي أوسع، برزت الخلافات حول القواعد الرقمية لتضع مستقبل هذا التفاهم على المحك؛ فبينما تحاول بروكسل حماية تشريعاتها التي أرستها على مدى سنوات، ترى واشنطن أن هذه القواعد ما هي إلا عوائق أمام شركاتها العملاقة.

تصطدم المفاوضات التي بدأت بوعود كبيرة بملف "السيادة الرقمية"، الذي تحوّل إلى ساحة مواجهة جديدة بين نموذجين مختلفين: الأول أوروبي يركز على حماية البيانات وفرض الحوكمة الصارمة، والثاني أميركي يطالب بحرية تدفق المعلومات عبر الحدود دون قيود.

وفي ظل الضغوط الجيوسياسية العالمية، من التنافس مع الصين إلى تداعيات الحرب في أوكرانيا، تبدو الحاجة إلى جبهة غربية موحدة أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. غير أن استمرار الهوة بين الطرفين قد يضعف قدرتهما على صياغة نظام تجاري ورقمي عالمي مشترك، ويفتح الباب أمام مزيد من التجزئة والانقسام في الاقتصاد الدولي.

القواعد الرقمية

ويحاول الاتحاد الأوروبي منع الولايات المتحدة من استهداف القواعد الرقمية التاريخية للكتلة، في حين يتجادل الجانبان حول التفاصيل النهائية لبيان مؤجل من شأنه أن يضفي الطابع الرسمي على صفقة التجارة التي اتفقا عليها الشهر الماضي.

وبحسب مسؤولين في الاتحاد الأوروبي، فإن الخلافات حول اللغة المتعلقة بـ "الحواجز غير الجمركية" - والتي قالت الولايات المتحدة في السابق إنها تشمل القواعد الرقمية الطموحة للكتلة - من بين الأسباب التي أدت إلى تعطل البيان المشترك، وفق ما نقلته صحيفة فايننشال تايمز.

وكان من المتوقع في الأصل أن يتم ذلك بعد أيام من إعلان رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين والرئيس الأميركي دونالد ترامب عن اتفاق بشأن الرسوم الجمركية في 27 يوليو في اسكتلندا.

وصرح مسؤولان في الاتحاد الأوروبي بأن الولايات المتحدة تريد إبقاء الباب مفتوحاً أمام تنازلات محتملة بشأن قانون الخدمات الرقمية للاتحاد، الذي يُلزم شركات التكنولوجيا الكبرى بمراقبة منصاتها بشكل أكثر صرامة. وأكدت المفوضية أن تخفيف هذه القواعد يُعدّ تجاوزاً.

لكن مسؤولاً أميركياً قال: "نحن نواصل معالجة الحواجز التجارية الرقمية في المحادثات مع شركائنا التجاريين، ووافق الاتحاد الأوروبي على معالجة هذه الحواجز عندما تم التوصل إلى اتفاقنا الأولي"، بحسب التقرير.

وكانت المفوضية الأوروبية تتوقع أيضاً أن يوقع ترامب على أمر تنفيذي يخفض الرسوم الجمركية على السيارات الأوروبية المصدرة إلى الولايات المتحدة من 27.5 إلى 15 بالمئة بحلول 15 أغسطس، لكن مسؤولا أميركيا أشار إلى أن هذا لن يحدث حتى يتم الاتفاق على البيان المشترك.

التمسك بالقواعد

الكاتب الصحافي المتخصص في الاقتصاد السياسي، أبو بكر الديب، يقول لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":

في ظل تصاعد التوترات التجارية بين بروكسل وواشنطن، يحاول الاتحاد الأوروبي التمسك بقواعده الرقمية الصارمة التي يعتبرها جوهر سيادته وحماية لمواطنيه. الولايات المتحدة من جانبها ترى أن هذه القواعد تشكّل عوائق تجارية تُستخدم ضد شركاتها التكنولوجية الكبرى. الاتفاق التجاري الذي كان يُفترض أن يفتح الباب أمام تقارب اقتصادي أوسع، بات مهدداً بأن يتحول إلى ساحة مواجهة جديدة حول مستقبل الفضاء الرقمي. تتمسك بروكسل باللوائح التي أرستها على مدى سنوات، وفي مقدمتها حماية البيانات وقيود التعامل مع المعلومات داخل حدودها، بينما تضغط واشنطن لفرض حرية تدفق البيانات عبر الحدود ومنع ما تعتبره تمييزاً ضد شركاتها العملاقة.

ويضيف: "هذا الخلاف يعكس صراعاً أوسع بين نموذجين؛ الأول يقوم على سوق مفتوحة يقودها الابتكار، والثاني يستند إلى تنظيم وقائي وحوكمة صارمة. وفي خلفية هذه المواجهة تقف تحديات أكبر؛ أبرزها التنافس التكنولوجي مع الصين والضغوط الجيوسياسية الناتجة عن الحرب في أوكرانيا، ما يجعل الحاجة إلى جبهة غربية موحدة أكثر إلحاحاً".

لكن فشل الطرفين في تجاوز هذه الهوة قد يعني أكثر من مجرد تعثر في مفاوضات تجارية؛ إذ يمكن أن يضعف قدرة الغرب على صياغة معايير مشتركة للنظام التجاري العالمي الجديد، ويفتح الباب أمام مزيد من التجزئة الرقمية، وفق الديب.

ويستطرد: "لذلك، يطرح البعض خياراً وسطاً يقوم على الاعتراف المتبادل ببعض القواعد، وابتكار آليات مرنة لحل النزاعات، وربما إشراك أطراف دولية مثل منظمة التجارة العالمية"، منبهاً إلى أن النتائج المنتظرة من هذه المفاوضات لن تنعكس فقط على العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، بل قد تحدد شكل التنظيم الرقمي العالمي وتوزيع النفوذ في فضاء تتصارع فيه المصالح الاقتصادية مع القيم المرتبطة بالسيادة الرقمية.

نص مرتقب

يأتي ذلك في وقت يقترب فيه الاتحاد الأوروبي من التوصل لنص يترجم الاتفاق التجاري بينهما؛ فقد قالت المفوضية الأوروبية يوم الخميس الماضي إن واشنطن قدمت نصا مقترحا لبيان مشترك يتضمن إطار اتفاقها التجاري مع الاتحاد الأوروبي، مما يشير إلى أن الاتفاق السياسي يقترب من أن يصبح حقيقة، بحسب "بوليتكو".

وقال المتحدث باسم المفوضية الأوروبية لشؤون التجارة، أولوف جيل في مؤتمر صحافي: "يسعدني أن أؤكد أننا تلقينا رسالة نصية من الولايات المتحدة تتضمن اقتراحاتها للاقتراب من الانتهاء من الوثيقة، لذلك سننظر في ذلك الآن"".

وأبرم الرئيس دونالد ترامب اتفاقاً مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في ناديه للغولف في اسكتلندا في 27 يوليو. ومنذ ذلك الحين، فرض تعرفة جمركية أساسية بنسبة 15 بالمئة، لكن جوانب أخرى من الاتفاق لم تدخل حيز التنفيذ بعد.

على وجه الخصوص، لم تُخفِّض الولايات المتحدة بعدُ الرسوم الجمركية على السيارات من 27.5 إلى 15 بالمئة، كما أُعلن. علاوةً على ذلك، لا يزال الفولاذ والألمنيوم خاضعين لرسوم جمركية بنسبة 50 بالمئة.

ويقول جيل: "سنجري بعض النقاشات على المستويين الفني والسياسي مع نظرائنا الأميركيين، وسنواصل العمل في هذا الصدد.. وأؤكد أننا ملتزمون تماماً بإنهاء هذا البيان المشترك وتجهيزه لقراءتكم جميعاً في أقرب وقت ممكن".

الأبعاد الجيوسياسية

يقول أستاذ العلاقات الدولية، محمد عطيف، لموقع "اقتصاد سكاي نيوز عربية":

تمسك الاتحاد الأوروبي بحماية قواعده الرقمية يعكس إرادة واضحة للحفاظ على سيادته الرقمية في مواجهة الضغوط الأميركية. هذه القواعد، وعلى رأسها اللائحة العامة لحماية البيانات والتشريعات المنظمة للأسواق الرقمية، لم تعد مجرد أدوات تقنية، بل تحولت إلى ركيزة أساسية في الدفاع عن نموذج أوروبي يوازن بين حرية السوق وحقوق الأفراد، وهو ما تعتبره واشنطن عائقاً أمام توسع شركاتها التكنولوجية العملاقة على الصعيد العالمي.

ويضيف: من وجهة نظري، فإن الخلاف القائم يتجاوز مسألة تجارية بسيطة؛ لأنه يعكس اختلافاً عميقاً في فلسفة كل طرف؛ ففي الوقت الذي يعتبر فيه الأوروبيون أن حماية البيانات والخصوصية حق إنساني لا يمكن التفريط فيه، ترى الولايات المتحدة أن القيود المفرطة على تدفق البيانات الحرة تشكل تهديداً لمصالحها الاقتصادية. ولهذا السبب، فإن المفاوضات بين الطرفين تتعثر باستمرار، ويصعب التوصل إلى اتفاق تجاري نهائي دون أن يقدم أحدهما تنازلات حقيقية.

ويستطرد: النزاع ليس محصوراً في الجانب الاقتصادي فقط، بل يتصل أيضاً بالبعد الجيوسياسي، بحيث أن الولايات المتحدة تسعى إلى تكريس هيمنة شركاتها العملاقة وفرض نموذجها الرقمي عالمياً، بينما يصر الاتحاد الأوروبي على لعب دور القوة المعيارية التي تضع قواعد المستقبل الرقمي. وهذا الصراع على المعايير يفسر حساسية بروكسيل من أي محاولة أميركية لتقويض مكتسباتها التشريعية.

وتبعاً لذلك، يعتقد عطيف بأن الاتفاق التجاري يواجه اختباراً صعباً، إما أن يفضي في صورته النهائية عملياً إلى صيغة توافقية تحمي الخصوصية الأوروبية وتضمن في الوقت نفسه مصالح الشركات الأميركية، أو يتحول إلى نقطة خلاف جديدة تزيد من حدة التوتر في العلاقات عبر الأطلسي.

ومع صعود قوى بديلة كالصين، قد يجد الطرفان نفسيهما مضطرين لاعتماد مقاربة براغماتية لتجنب خسارة موقعهما في النظام الاقتصادي العالمي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق