في خضم الخطاب العالي النبرة الذي يطلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد الصين، تبرز مفارقة لافتة: فبينما يهدد الحلفاء التقليديين لواشنطن بفرض عقوبات وإجراءات صارمة، يتعامل مع بكين بقدر من المرونة، مانحًا إياها مهلة تفاوضية لثلاثة أشهر، وسامحًا لشركات أميركية مثل AMD وNVIDIA باستئناف بيع الرقائق الإلكترونية للشركات الصينية رغم المنع السابق، متجنبًا أيضًا فرض عقوبات على بكين رغم شرائها النفط الروسي.
هذه المفارقة تفتح باب التساؤل: هل العلاقة الأميركية–الصينية لعبة مفاوضات بحتة، أم صفقة مصالح كبرى تفرضها معادلات الاعتماد المتبادل؟
شبكة الاعتمادية المتبادلة
لعل التفسير الأبرز لهذا التناقض يكمن في شبكة معقدة نسجتها بكين خلال سنوات طويلة، جعلت من الاقتصاد الأميركي مرتبطًا بها بشكل شبه كامل في قطاعات استراتيجية.
وفي خطوة استباقية، خفضت الصين وارداتها من السلع الأميركية من 20 بالمئة عام 2018 إلى 12 بالمئة حاليًا، في محاولة لتقليل أي تداعيات محتملة نتيجة فرض رسوم جمركية جديدة. ما يعني أن أي خطأ في الحسابات التفاوضية سيكلف الطرفين ثمنًا باهظًا، وهو ما يدركه ترامب جيدًا.
براغماتية ترامب في مواجهة الشعارات
في تحليله للمشهد، قال كبير استراتيجيي الاستثمار في KraneShares، أنطوني ساسين، خلال حديثه إلى برنامج "بزنس مع لبنى" على سكاي نيوز عربية:
"رغم كل الشعارات العالية والنبرة المرتفعة خاصة من أميركا ومن ترامب، البلدين متكلان على بعض بشدة، والكلفة ستكون عالية على الطرفين إذا تم فرض رسوم جديدة أو تعريفات."
ساسين لفت إلى أن الولايات المتحدة نفسها دفعت ثمنًا باهظًا في حرب 2018 التجارية، حين اضطرت الإدارة الأميركية إلى تخصيص نحو 10 مليارات دولار لدعم المزارعين المتضررين من الرسوم الجمركية الصينية. تجربة جعلت ترامب – رغم خطابه الصاخب – أكثر حذرًا وميلاً إلى البراغماتية عند التنفيذ.
ورقة النفط الروسي: حسابات معقدة
الصين تستورد النفط الروسي بأسعار منخفضة، وهو ما يمنحها ميزة استراتيجية مزدوجة:
تخفيف كلفة الطاقة على اقتصادها. استخدام النفط كسلاح ضغط في مواجهة واشنطن وأوروبا، إذ لا تمتلك الأخيرة المرونة ذاتها في التعامل مع العقوبات.ساسين أشار إلى أن "النفط الروسي الرخيص أداة بيد بكين، تستخدمها لتعزيز موقفها في مواجهة أميركا وأوروبا، خصوصًا مع تزايد التوترات حول تايوان وبحر الصين الجنوبي."
هذا الاستخدام الذكي للأدوات الاقتصادية يعكس نهج الصين في المزاوجة بين النفوذ الاقتصادي والتصعيد الجيوسياسي، بما يضع الولايات المتحدة أمام خيارات أكثر تعقيدًا.
الدولار تحت المجهر
من زاوية أخرى، تدخل العوامل المالية على خط التوترات. إذ أوضح ساسين أن الاقتصاد الأميركي يعاني من ضغوط متزايدة:
التضخم لا يزال عند 3.1 بالمئة ، وهو رقم مرتفع بالنسبة للاحتياطي الفيدرالي. معدلات البطالة بدأت بالصعود التدريجي. الأسواق تسعّر مستقبلًا تراجعًا تدريجيًا في قيمة الدولار لصالح العملات الآسيوية."هناك خروج تدريجي من الدولار الأميركي إلى العملات الأخرى، خصوصًا الآسيوية، نتيجة التباطؤ الاقتصادي في أميركا"، يقول ساسين.
هذه المؤشرات تجعل الإدارة الأميركية أقل استعدادًا للدخول في حرب اقتصادية شاملة مع الصين، في وقت يعاني فيه الاقتصاد من تباطؤ وضغوط تضخمية.
قطاع السيارات الكهربائية: قصة نجاح مهددة؟
على الجانب الآخر، تبرز قضية السيارات الكهربائية بوصفها مثالاً واضحًا على التحديات الاقتصادية العالمية، حيث يواجه القطاع الذي كان يُنتظر أن يكون قصة نجاح متسارعة خيبة أمل في الآونة الأخيرة.
رغم وجود 69 مليون سيارة كهربائية على الطرق عالميًا، إلا أن المبيعات سجلت أبطأ نمو في يوليو منذ سبعة أشهر، ما دفع المحللين إلى خفض توقعات النمو خلال السنوات الخمس المقبلة.
أسباب التراجع متعددة:
الولايات المتحدة ألغت الدعم الحكومي للسيارات الكهربائية. الصين قلّصت المنح والحوافز للمصنعين والمستهلكين. فرض رسوم جمركية أثقل كاهل المبيعات.الصين: مركز الثقل العالمي
ورغم هذه التحديات، تبقى الصين اللاعب الأكبر:
من المتوقع أن تصل مبيعات السيارات الكهربائية في العالم إلى 20 مليون سيارة بحلول 2025. منها 14 مليون سيارة في الصين وحدها، أي ما يعادل حجم المبيعات العالمية في 2023 بأكمله. الصين تستحوذ على 50 بالمئة من السيارات الكهربائية عالميًا، وتنتج 70 بالمئة من السيارات الكهربائية المصنعة حول العالم.ما يعني أن أي خلل في الطلب الصيني سيكون بمثابة صدمة عالمية.
المنافسة الصينية: تفوق الكلفة والتكنولوجيا
أكد ساسين خلال حديثه أن نجاح الصين في هذا القطاع لا يعود فقط إلى حجم السوق، بل أيضًا إلى تفوقها في التكنولوجيا والتكلفة:
"الصين لديها طريقة أسرع وأرخص لإنتاج السيارات الكهربائية. وهذا يضع أوروبا وأميركا في موقف صعب، إذ من المستحيل تقريبًا مجاراتها في الكلفة."
حتى عندما حاولت الشركات الصينية الكبرى خفض الأسعار لزيادة حصتها السوقية، تدخلت الحكومة وفرضت قيودًا لمنع حرب أسعار، ما أعطى فرصة للشركات المتأخرة مثل نيو وجيلي وغريت وول للانتعاش.
هذا التدخل يوضح كيف تدير بكين سوقها بطريقة تحافظ على التوازن الداخلي وتدعم التنوع التنافسي.
من المزارع إلى التكنولوجيا: قبضة بكين المحكمة
المشهد العام يعكس أن النفوذ الصيني يتجاوز قطاعًا واحدًا ليغطي الزراعة، المعادن، التكنولوجيا، والطاقة. بكين استطاعت أن تبني شبكة مصالح تجعل الانفكاك عنها مكلفًا للغاية.
في المقابل، واشنطن تدرك أنها تملك أوراقًا مؤثرة أيضًا، مثل منع المؤسسات الأميركية من الاستثمار في الصين أو تقييد وصول الشركات الصينية إلى الأسواق الأميركية. لكن، وكما أشار ساسين، فإن الكلفة تبقى مرتفعة على الجانبين، ما يجعل أي مواجهة شاملة خيارًا محفوفًا بالمخاطر.
0 تعليق