سر عمق التجربة الإنسانية - اخبار الكويت

0 تعليق ارسل طباعة
تم النشر في: 

11 يونيو 2025, 1:10 مساءً

التجارب هي الرصيد الحقيقي، ومن لا يخوضها يفتقر لثراء التجربة مهما امتلك. يظنّ البعض أن الثروة تُقاس بما نملك أو بما نُتقن، لكن الحقيقة أن الرصيد الأعمق الذي يُشكّل وعينا ومشاعرنا وطريقة فهمنا للحياة لا يُصنَع إلا من شيء واحد: التجربة. كل تجربة مررنا بها، حتى وإن لم ندرك أثرها لحظتها، تترك بصمة خفيّة في وعينا، تصقلنا بصمت، وتعيد تشكيلنا من الداخل. التجربة الحقيقية لا تمر بنا فقط، بل تغيّر طريقة مرورنا بالأشياء بعد ذلك. فالبعض يهرب من التجارب بدافع الحذر أو طلب الأمان، يخشى المحاولة أو الألم أو الفشل. لكن الحقيقة النفسية تقول: من لا يخوض التجربة يبقى كما هو، مهما امتلك من معرفة أو شهادات أو قدرات. سيبقى خالٍ من عمق التجربة، لأن الفهم الحقيقي لا يأتي من الخارج، بل من الداخل، من العيش لا من المشاهدة. التجربة تُعلّمنا من خلال التلامس المباشر مع الواقع، تفتح في داخلنا مساحات جديدة للفهم، تُعيد ترتيب أولوياتنا، وتكشف لنا من نكون فعلاً، لا كما نتخيل.

ليست كل تجربة سهلة أو جميلة، وكثير من التحولات الكبرى خرجت من تجربة مؤلمة أو قاسية. لكن القسوة لا تنفي القيمة. والسؤال ليس لماذا مررت بها، بل: ماذا فعلت بها؟ وماذا فعلت بك؟ بعض التجارب تكون مثل الجرح، لكنها تكشف ما لم نكن نراه. وبعضها يخلخل استقرارنا لكنه يحررنا من الثبات الزائف. في ظاهر الأمر، يبدو الكلام عن خوض التجربة سهلاً على الورق، لكن في الواقع، تحتاج إلى شيء من الجرأة، وتمر أولاً من بوابة الخوف. والخوف، على عكس ما يُظن، ليس ضعفاً، بل دليل على أننا نقترب من أمرٍ مهم. وهو شعور إنساني طبيعي، بل صحي أحياناً لأنه يمنع التهور. أما الجبن فشيء آخر تمامًا. الجبن صفة، كالشجاعة والكرم، متأصلة ومستقرة، تدفع بصاحبها لتفادي الحياة لا لحمايته منها. أن تخاف لا بأس، وأن تعترف بالخوف لا بأس، لكن أن تتوقف عنده دائماً، فهنا تبدأ الخسارة النفسية الحقيقية. حين نخوض تجربة جديدة، كثيراً ما نكون خائفين أو مترددين. لا أحد يبدأ تجربة عظيمة بثقة كاملة. الفرق الحقيقي هو في الاستمرار رغم الارتجاف. وعادةً، حين تنتهي التجربة، لا نتذكر حجم الخوف، بل نتذكر أثرها، وربما تصبح لاحقاً من أجمل الذكريات وأكثرها دفئاً وصدقاً. بل إن التجارب الصعبة والمؤلمة غالباً ما تكون الأكثر عمقاً وتأثيراً. فـغنائم المرء أوجاعه، وكما قال توفيق الحكيم: "لا شيء يجعلنا عظماء سوى ألم عظيم"، وقد قال ﷺ: " ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب، ولا هم ولا حزن، ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه". فكل ألم نمر به في تجربة صادقة هو، على المستوى الأعمق، نحت للنفس وارتقاء بها وغنيمة مؤجلة.

من منظور علم النفس، تشير الأبحاث إلى أن حتى مجرد التفكير في خوض تجربة أو تصورها يُفعّل في الدماغ أنظمة عصبية معقّدة من التوقع والانفعال، وهذا ما يُسمى بـ "التجربة المتوقعة Anticipated Experience"، ومن المهم التمييز بين" التجربة المتوقعة" التي تحدث في نطاق التخيل، و"التجربة الفعلية Actual Experience" التي تحدث في الواقع، إذ أن الأولى تثير الانفعالات الذهنية فقط، بينما الثانية تُحفّز التعلّم العميق وتُنتج أثراً نفسياً دائماً من خلال التفاعل الحقيقي مع الحدث. لكن إن تكرّر التردد أو الخوف من خوضها، يبدأ الدماغ في تدوير أنماط سلبية وقلقة قد تخلق حالة من الجمود أو الانغلاق النفسي.

أما خوض التجربة فعلياً، حتى إن رافقها ألم أو فشل، فيُحفّز مناطق التعلّم والتكيّف العصبي، ويبني ما يُعرف بـالمرونة النفسية. وهي التي تمنح الإنسان قدرة على مواجهة التحديات المستقبلية، وتُقلل من أثر الصدمات. لذلك، التجربة ليست مجرد ماضٍ نحتفظ به، بل هي أداة تصنع مستقبلنا النفسي أيضاً.

لكن ماذا عن أولئك الذين لا تُتاح لهم الفرص الكافية لخوض التجارب؟ هل يُحرمون من التعلّم؟

الجواب: الوعي بتجارب الآخرين قد يكون مصدراً غنياً للتعلم. قصص الناس، سِيَر العلماء، وحكايات الأدباء، كلها كنوز نفسية تسمح للمتأمل بتوسيع أفقه دون أن يعيشها بنفسه. وفي مقال سابق تحدثت عن أهمية السير الذاتية التي تحمل عبق التجارب الإنسانية، فهي مصدر لا ينضب من الدروس والعبر.

ختاماً، عندما تطرقك التجربة، استقبلها بصدق. لا بأس إن أحسست بالخوف، فهو شعور طبيعي وعلامة على قربك من أمر مهم. وهذا التوازن بين الخوف والجرأة يصنع منك إنساناً أكثر عمقاً وقوة. بعد كل تجربة، تكتسب شيئاً لم يكن لديك من قبل، وهذا هو الرصيد الذي لا يقدر بثمن.

ملك الحازمي

منصة اكس/@Malak_mah

https://x.com/malak_mah?s=21

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق