على الرغم من الجهود الحكومية المبذولة لتحديث المنظومة التشريعية في البلاد، عبر إقرار حزمة من القوانين، فإن بعض الملاحظات تفرض نفسها عند التمعن في العلاقة بين نصوص بعضها والمذكرات الإيضاحية المرافقة لها.
مع ظهور تباين واضح بين المراسيم بقوانين التي صدرت مؤخراً ومذكراتها الإيضاحية، أعيدت إلى الأذهان ملاحظات قديمة، كثيراً ما تمت إثارتها بشأن ما اصطلح على تسميته بـ«السلق التشريعي»، الذي كنا نحذر من تداعياته، لما له من تأثير مباشر على جودة التشريع وسلامة تطبيقه.
ويرى مراقبون أن المنظومة التشريعية في البلاد تعيش حالة من الارتباك والتناقض، تتجلى بشكل صارخ في الفجوة الكبيرة بين نصوص القوانين والمذكرات الإيضاحية المرافقة لها، إلى درجة يشعر معها المتابع وكأن القانون في وادٍ، ومذكرته الإيضاحية في وادٍ آخر.
وخلافاً لما نصت عليه الممارسة الدستورية والتقاليد التشريعية الراسخة بأن المذكرة الإيضاحية تعد جزءاً لا يتجزأ من القانون وتكملة له، فإن ما يحدث في الواقع التشريعي، يناقض هذا المفهوم الدستوري، ويكشف عن فجوة تتسع يوماً بعد آخر، تفرغ المذكرة الإيضاحية من مضمونها، وتحولها إلى حشو إنشائي أو نسخ مكرر، وبما لا يعكس فلسفة القانون ولا يشرح أهدافه أو يحدد نطاق تطبيقه، بل يفتح الباب أمام تساؤلات مشروعة حول مدى تأثير اتباع هذا النهج في إقرار القوانين على المنظومة التشريعية في البلاد.
ففي خطوة أثارت كثيراً من التساؤلات، صدر الأربعاء الماضي مرسوم بتعديل قانون الرسوم القضائية، معتمداً في أسبابه على «ارتفاع معدلات التضخم وأسعار السلع»، وهو مبرر وصفه خبراء بأنه بعيد تماماً عن طبيعة القانون وهدفه.
ربط الرسوم القضائية بالتضخم يعكس أن القوانين في وادٍ والمذكرات في وادٍ آخر
الزميل محمد البغلي علّق على التعديل بقوله: «ربط الرسوم القضائية بالتضخم يعكس ارتباكاً في فهم دور القانون، إذ إن الرسوم يجب أن تقر بناءً على مستوى الخدمة وجودتها، لا بوصفها وسيلة لموازنة مؤشرات الاقتصاد الوطني»، معتبراً أن «ما حدث يعكس حالة من الارتجال في التبرير، وسوء تقدير في التعامل مع مشكلات اقتصادية حقيقية، يتم تحميلها على ظهر المواطن والمتقاضي من دون رؤية واضحة».
«الجنيه المصري»
ومن الأمثلة الفجّة على ما يمكن وصفه بـ «السلق التشريعي»، ما جرى في مسودة قانون الرياضة الجديد، التي نشرت «الجريدة» تقريراً عنه تحت عنوان «الحويلة تطور الرياضة الكويتية بنسخ القانون المصري»، إذ كان واضحاً تشابه العديد من بنود مسودة القانون المرسلة إلى الفتوى والتشريع مع القانون المصري المتعلق بالرياضة، عبر وجود العقوبات على الأندية والرياضيين بعملة «الجنيه المصري» بدلاً من «الدينار الكويتي»، في سقطة أثارت سخرية المختصين، لكنها في الوقت ذاته أظهرت هشاشة الإعداد وفقر المراجعة القانونية.
قانون تطوير الرياضة تضمن العقوبات بالجنيه المصري ما أظهر هشاشة الإعداد وفقر المراجعة
ولم تسلم حتى القوانين الجزائية من الصياغة الإنشائية البعيدة عن الموضوع، ففي أحد التعديلات على قانون الجزاء، جاءت المذكرة الإيضاحية مليئة بالبلاغة وأشبه بخطبة انتخابية بحديثها عن «رمزية القانون كأداة لسيادة الدولة وهيبتها»، بينما كان التعديل الحقيقي ينص ببساطة على السماح باستخدام البريد الإلكتروني لإرسال الإعلانات القضائية في الأحكام الغيابية!
«الإفراج المشروط» بلا مذكرة إيضاحية... وقانون «البريد الإلكتروني» بمقدمة خيالية!
وفي سابقة لا تقل غرابة، صدر تعديل آخر لقانون الجزاء، فيما يخص الإفراج المشروط دون أن يرفق به أي مذكرة إيضاحية على الإطلاق، وكأن الأمر لا يتطلب تفسيراً أو توضيحاً، في تجاهل صارخ لأهمية تلك المذكرات في فهم نوايا المشرع وتفسير النصوص التي احتواها القانون للقاضي والمتقاضي.
إقرار مجلس الوزراء قانونين وإعداد مذكرتيهما لاحقاً... مخالفة للأعراف التشريعية
ولم يقف الأمر عند ذلك، إذ أقرّ مجلس الوزراء في اجتماعه المنعقد 6 مايو الماضي مرسومين بتعديل قانوني «تأسيس شركات لإنشاء مدن إسكانية، والمساعدات العامة»، ثم كلّف إدارة الفتوى والتشريع إعداد المذكرة الإيضاحية لكل منهما لاحقاً، مما يخالف الأعراف التشريعية التي تشترط أن تكون المذكرة جزءاً من مشروع القانون عند رفعه، لا لاحقاً له.
خطورة عدم التناغم بين القوانين والمذكرات الإيضاحية، لا تتوقف بحسب المراقبين عند حد الشكل أو الصياغة، بل تمتد إلى آثار خطيرة على تفسير القوانين وتطبيقها، وقد تعرض بعضها للطعن أو سوء الفهم القضائي، ناهيك عن استغلالها في تأويلات مختلفة خارجة عن نية المشرع، خصوصاً عندما تكتب «المذكرات» بلغة مختلفة، وكأن من أعدها طرف لا علاقة له بالقانون نفسه.
ووسط هذا الواقع، يرى المراقبون أن الأمر لم يعد يحتمل معالجة شكلية، بل يستدعي مراجعة جذرية في آلية إعداد وصياغة القوانين ومذكراتها، وأصبحت هناك ثمّة حاجة ماسة إلى لجنة تشريعية دائمة ضمن مجلس الوزراء، تتولى فحص القوانين ومذكراتها قبل عرضها عليه، لضمان سلامة الصياغة ودقة التبرير، وتوحيد منهجية التشريع في الدولة.
أخيراً وليس آخراً، نحن أمام أزمة «صامتة»، لا تتعلق بعدد القوانين أو سرعة إصدارها، إنما بجودة المنتج التشريعي نفسه، الذي يجب أن يبنى على دراسة متأنية، ورؤية قانونية متكاملة، تبدأ من النص وتنتهي بمذكرته الإيضاحية... لا أن يقر بسياسية «الكروتة والسلق» التي ستنتهي إما بإبطاله أو استخدامه في غير محله.
0 تعليق