كتبت بديعة زيدان:
قدّم الكاتب والمترجم والأكاديمي د. إبراهيم أبو هشهش ورقة تكريمية حول صديقه وزميله د. أحمد حرب، الروائي والناقد والأكاديمي والناشط الحقوقي، ناقش فيها تقاطع الرواية والسيرة الذاتية كفنَّيْن أدبيَّيْن، بالتركيز على رواية "صعود المئذنة" (2008) والسيرة الذاتية "مواقد الذكرى" (2024)، لافتاً إلى أنه رغم أن حرب فضّل تسمية سيرته الذاتية روايةً أو "قبضةً على الزمن الضائع"، إلا أن أبو هشهش شدّد على القصدية الكامنة وراء الإبداع الفني، مُميزاً إياه عن الأفعال الطبيعية أو الغريزية، لافتاً إلى أن للقراء حرية تفسير الأعمال بناءً على أدواتهم الثقافية والفكرية الخاصة.
جاء ذلك في ندوة بعنوان "السرد وتداخل الأجناس"، ضمن فعاليات ملتقى السرد العربي في الأردن، ونظمته رابطة الكتاب الأردنيين، ضمن فعاليات الدورة التاسعة والثلاثين لمهرجان جرش للثقافة والفنون.
وتناول أبو هشهش هذين العملَين عبر ثلاثة محاور رئيسية: المكان، والتبئير (المنظور السردي الذي يجري من خلال نقطة تحدد الرؤية وتحصرها)، والقارئ.
في المحور الأول يشير إلى أنه "على الرغم من أن المكان في الصعود إلى المئذنة قد يبدو هنا إطاراً للعناصر السردية الأخرى، إلا أنه في حقيقية الأمر ذو حضور أساسي بأبعاده الواقعية وبمحموله الإنساني والاجتماعي، مثلما بدلالاته الرمزية التي تتكشّف لدى القراء، فعنوان الرواية يرفع المكان لافتةً بارزةً بإسناده مصدر الصعود المشتق من فعل يشير إلى الارتقاء إلى مرتفع هو المئذنة هنا، بما يتضمّنه ذلك من دلالات الإشراف على الأشياء من علٍ ورؤيتها في مشهد بانورامي".
ولفت أبو هشهش إلى أن "المكان الذي يحتلّ أهميّة خاصّة في هذه الرواية هو مغارة "صنع الجابري" التي ولد فيها السارد في 13/9/1949 ليصبح هذا التاريخ فيما بعد حدّاً مفصلياً يؤرّخ انطلاقاً منه لأيّ حدث مهم لاحق، مثل الصعود إلى المئذنة الذي تزامن مع بدء معركة السموع في 13/9/1966، أو الهجوم عل مخفر الرهوة في 13/9/1958 وقتل حاميته المكونة من تسعة عشر جندياً بعضهم من قرية العين، أو التقاء السارد للمرة الثانية بياسر عمرو بعد 13/9/1993، وهو شخصية تاريخية متعينة في الواقع كما هو معروف، كان السارد التقاه إثر معركة السموع، وشارك في حملته الانتخابية للبرلمان حينما كان أحد أقطاب المعارضة الأردنية، ثمّ واحداً من شخصيات السُّلطة بعد أوسلو الذي ارتبط أيضاً بتاريخ 13/9. وهنا يبدو أوسلو النتيجة الحتمية لهزيمة حزيران 1967، منسحباً بهذا على كلّ ما سبقه من هزائم أفضت إليه بالضرورة، وكان تتويجاً لها جميعاً".
وفي المحور الثاني شدّد أبو هشهش على كون "القارئ قد لا يستطيع أن يمنع نفسه من المطابقة بين السارد المتحدّث بضمير المتكلم من جهة، والشخصيّة المتحقّقة من الحوار والأحداث والأوصاف من جهة ثانية، والكاتب الصريح الذي وقّع باسمه على غلاف الرواية من جهة ثالثة، وسوف يواجه إغراء كبيراً يسوقه إلى اعتبار أنّ يسير يحيى خليل يقظان ليس سوى أحمد حرب نفسه، مثلما أنّ قرية العين التي تقع في منتصف المسافة بين الخليل وبئر السبع، ليست سوى الظاهريّة ذاتها التي ولد فيها الروائي الصريح أحمد حرب، أي أنّ الكاتب المعلن عنه صراحة بأنه الشخص الذي يقف وراء هذا الكيان السردي برمّته، هو نفس الأنا الذي يحكي تجارب ذاتية، وهو أيضاً الكائن الذي يتحدّد بجوانبه المختلفة في الحوادث والأوصاف والأفكار وسواها من الأبعاد السردية، إلى جانب شخصياّت أخرى في عالم الرواية، فالأبعاد اللسانيّة، أي السرد بضمير المتحدث، والأبعاد الموضوعية المتعلقة بتطابق أبعاد شخصية السارد مع المعلومات التي نعرفها عن المؤلف الصريح الذي مهر غلاف الرواية باسمه، لا تترك مجالاً كبيراً للقارئ لكي يتلقّى عالم الرواية على أنه عالم سردي متخيل فقط، وسيجد نفسه منساقاً إلى قراءة هذه الرواية باعتبارها قطعة من سيرة ذاتية، أو على الأقل تنهل من تجارب ذاتية عاشها السارد مباشرة".
أما في المحور الثالث لمداخلته فلفت أبو هشهش إلى أن من يقرأ العملين، وبالضرورة كان قد قرأ الرواية، وافترض أنها تمثّل جانباً من سيرة كاتبها الصريح، وذلك قبل زمن طويل نسبياً من قراءة السيرة التي صدرت بعد حوالى سبعة عشر عاماً على صدور الرواية، سوف يبحث تلقائيّاً عن نقاط التقاطع التي تدعم افتراضه، أو نقاط الافتراق التي تهدمه، وسيجد دون جهدٍ كبيرٍ كثيراً من الشّواهد على ذلك، يمكن هنا الإشارة بسرعة إلى بعضها فقط على سبيل التمثيل، وأهمّها ما ينطبق على المكان، أي العين في الرواية والظاهرية في السيرة، بالمكوّنات المتكرّرة في العملين: العمارة التي تمثّل السُّلطة في العملين، ومغارة صنع الجابري التي كان حضورها الرمزي في الرواية موازياً لحضور مغارة الغماري الواقعي في السيرة، وكذلك شخصيات مختلفة جاءت مقنّعة في الرواية وظهرت باسمها الصريح في السيرة، مثل قائد الدرك، بل إنّ بعض الشخصيات وردت في العملين بالاسم نفسه والدور نفسه، مثل أبله القرية القعقاع الذي رمز إلى الصوت المرتفع الذي كان هو كل ما أعددنا لمواجهة عدوّنا، وفي العملين يقتل أحد جنود الاحتلال القعقاع وهو ينبش في القمامة بعصاه.. بل إنّ شاور يقظان الذي لجأ من الدوايمة إلى العين بعد النكبة، يشترك مع بطل الرواية في اسم العائلة يقظان، ما يعزّز كذلك هذا الافتراض، خاصة إذا كنّا نعرف أنّ عائلة حرب القيسية توزعت قبل النكبة بين الدوايمة والظاهرية، وبعد النكبة لجأ من نجا منهم من المجزرة إلى الظاهرية، كما سيرد لاحقاً في السيرة الذاتية أيضاً".
وخلص أبو هشهش إلى أن محاولة "الصعود إلى المئذنة" لتحديد علاقتها بالمتخيل عن طريق الإيهام بالواقع، والخروج في الوقت نفسه عن هذا الواقع للمحافظة على كينونتها الخاصة، وفق تعبير برنار بيليت، هو ما يميز السرد في هذه الرواية إلى حد ملحوظ، وهذا اشتغال سردي يدلّ على المسافة الفنية الكبيرة التي قطعتها مسيرة أحمد حرب الروائية منذ "حكاية عائد" حتى "الصعود إلى المئذنة"، وصولاً إلى "مواقد الذكرى" نفسها، التي ترك كاتبها الخيار للقارئ أن يسمّيها كما يشاء: سيرة أم رواية أم "قبضة من زمن مفقود".
0 تعليق