في أعماق المحيط الهادي، حيث الظلام والسكينة والضغط الهائل، تعيش كائنات غريبة تتوهج في العتمة وتتسلل بين الصخور المعدنية المتكتلة. في هذا العالم المجهول، لا شيء يعكّر صفو الحياة البطيئة. لكن ذلك قد يتغير قريبا.
ففي خطوة أثارت قلق العلماء، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخميس الماضي أمرا تنفيذيا يفتح الباب أمام التعدين الصناعي في قاع البحر للمرة الأولى، وذلك بهدف استخراج معادن تُستخدم في الإلكترونيات وبطاريات السيارات والأسلحة المتطورة.
تعد هذه الموارد، التي تتكون ببطء شديد على مدى ملايين السنين، ذات قيمة إستراتيجية واقتصادية كبيرة، لكنها تشكل أيضا حجر الأساس لنظام بيئي بالغ الهشاشة.
ماذا يوجد بالقاع؟
يستهدف التعدين في أعماق البحار بشكل رئيسي ثلاثة أنواع من الرواسب المعدنية: العقيدات، والقشور، والتلال الحرارية. لكن التركيز حاليا ينصب على العقيدات، وهي كرات معدنية صغيرة تتشكل حول نواة، مثل سن سمكة قرش تتراكم عليه معادن كالمنغنيز والحديد ببطء شديد.
هذه العقيدات لا تحتوي على المعادن فحسب، بل هي موطن لمجموعة كبيرة من الكائنات البحرية. وفقا لعالمة المحيطات ليزا ليفين، فإن ما يقارب نصف أنواع الكائنات الحية في أعماق قاع البحر تُقيم على هذه العقيدات، بحسب ما تنقله صحيفة نيويورك تايمز.
إعلان
وتقول ليفين "لا نعرف مدى انتشار هذه الأنواع أو قدرتها على إعادة استعمار مناطق مدمرة بسبب التعدين"، مشيرة إلى هشاشة هذه النظم البيئية.

كيف يتم التعدين؟
هناك طريقتان أساسيتان للتعدين في قاع البحر: الأولى تستخدم أدوات كشط لجمع العقيدات من الأرض، والثانية تعتمد على شفطها بأنابيب ضخمة إلى سطح السفن. في كلتا الحالتين، تُعاد المياه والرواسب المصاحبة إلى البحر، مما يؤدي إلى اضطرابات بيئية كبيرة.
أحد أبرز المخاوف هو أعمدة الرواسب التي يمكن أن تنتشر في المياه النظيفة على أعماق تصل إلى ألف متر. هذه الأعمدة قد تخنق الكائنات الدقيقة مثل الإسفنج والروبيان، وتُعطّل الحياة البحرية من خلال التلوث السمعي والبصري، وتؤثر حتى على قدرة الكائنات على التزاوج أو اصطياد فرائسها.
كما أن المعادن الثقيلة في هذه الرواسب قد تلوث سلاسل الغذاء البحرية، بما في ذلك المأكولات البحرية التي يستهلكها البشر.
وعد بالاستدامة
تزعم شركات التعدين أنها تُطوّر تقنيات أكثر استدامة مثل استخدام روبوتات تعتمد الذكاء الاصطناعي لجمع العقيدات دون إثارة الرواسب، كما تفعل شركة "إمبوسيبل ميتالز". ففي عام 2022، نجحت شركة كندية في استخراج آلاف الأطنان من العقيدات، وجمعت بيانات بيئية خلال العملية.
لكن العلماء يحذّرون من أن النماذج النظرية والاختبارات المحدودة لا يمكن أن تعوّض المعرفة الحقيقية بتأثير هذه العمليات على المدى الطويل.
ويقول جيفري درازين عالم المحيطات في جامعة هاواي إننا نجهل مدى تأثير مثل هذه العمليات على سلاسل الغذاء، وفق نيويورك تايمز.

مخاطر بعيدة المدى
الحياة في أعماق المحيط تسير بوتيرة بطيئة جدا. بعض الأسماك تعيش مئات السنين، وبعض الشعاب المرجانية آلافا. وهذا يجعل من الصعب تقدير مدى قدرة هذه البيئات على التعافي بعد الاضطراب الذي يحدثه التعدين.
إعلان
وتشير عالمة الأحياء الجيولوجية بيثاني أوركت -في حديث إلى صحيفة نيويورك تايمز- إلى أنه "ليس لدينا إستراتيجيات استعادة لهذه النظم البيئية، كما لا يوجد دليل علمي على أننا نستطيع إصلاح ما نفسده".
وقد تتضرر العوالق، وهي أساس السلسلة الغذائية في المحيطات، بشدة من تغيرات طفيفة في البيئة، مما يؤدي إلى انهيارات بيئية يصعب وقفها.
هل نحتاج إلى التعدين؟
يشكك بعض العلماء في الحاجة الملحّة للتعدين في قاع البحر أصلا، مشيرين إلى أن المناجم الموجودة على اليابسة لا تزال قادرة على تلبية الطلب العالمي على المعادن.
من جهة أخرى، يرى المؤيدون أن التعدين في البحر قد يكون أقل ضررا من الناحية الكربونية من التعدين الأرضي.
ومع ذلك، تظل المشكلة الكبرى أن التعدين في قاع البحر لم يسبق أن جُرّب على نطاق واسع، ولا نعرف ما الذي قد يُحدثه في توازن المحيطات.
في الوقت الراهن، يظل قاع البحر أحد آخر الحدود غير المستكشفة على الكوكب، وموطنا لبيئات فريدة من نوعها قد تحمل أسرارا علمية وطبية غير مكتشفة. لكن طموح التكنولوجيا الحديثة قد يهدد هذه الكنوز الخفية قبل أن نعرف حتى ما الذي نخسره.
0 تعليق