كتب يوسف الشايب:
كأن الواحد منّا كان يصطدم بحائط، هرباً من محاكم التفتيش في الألفية الثالثة، إلى الفراغ، لاهثاً نحو الهاوية، وراء صراخ خلف الظلال، في حالة من الفصام الثنائي أو الثلاثي أو حتى الرباعي.
لعل التوصيف السابق ينطبق على المقطوعات الثلاث لكل من دينا الشلة وروبن برلتون، وشكلت بمجموعها العرض الموسيقي "هذه الأرض الخراب من الحواس"، في "عليّة"، مركز خليل السكاكيني الثقافي بمدينة رام الله، مؤخراً.
وتتأمل كل قطعة الأحداث الحالية في فلسطين أو تستجيب لها، كما يصفها مبتكروها، والعازفون المرافقون لهم، ما بين "أوبوا" حكمت قيمري، و"تشيلو" فارس أمين، و"غيتار" روبن برلتون وحنجرته، و"بيانو" دينا الشلة.
كانت الموسيقى تتأرجح تحت ضربات الزلزال المتواصل، كانعكاس لحالة اللااستقرار التي نعيشها ونعايشها، منذ ما يقارب القرن، وارتفعت وتيرتها حتى باتت كنبضات قلب معتل، في العام ونصف العام الأخيرين، وكأنها محاولة لإماطة اللثام عن حالة العناق بين الذاتي والجمعي، في رحلة نحو تعميق الهوية.
البداية كانت مع "مونولوجان متداخلان عبر أرض الخراب" لروبن برلتون، وهو عمل من حركة واحدة لآلتي "الأوبوا" و"التشيلو"، نشأ في البداية كقصيدة كتبها شخصان تفرقهم أرض مدمرة، ويناديان على بعضها البعض عبر الركام، بحثاً عن حب كان ودُفن أسفله، وهو ما انعكس موسيقياً بنسيج رقيق ومأساوي، قبل أن يفسح المجال لثنائية من الشوق والردود المتفجرة، قبل أن يعود إلى المشهد الأوّلي من الخراب.
المقطوعة الموسيقية الثانية من تأليف دينا الشلة، حملت عنوان "في مدينتي.. في بلدي"، توزعت على ست معزوفات، أولها حملها عنوان "ثرثرة داخلية"، أتبعتها بـ"ثنائية"، فـ"هل تستطيع أن تراني؟ أنا هنا!"، ومن ثم كانت "في المنتصف"، فتلك التي حملت المقطوعة عنوانها، لتنتهي بمعزوفة "عدوانية أفقية".
كانت الموسيقى في المعزوفات التي شكلت المقطوعة، تصرخ غضباً أو تنتحب، وتعتريها انفجارات عاطفية مفاجئة فهدوء متوتر أقرب إلى صمت الخائف، في انعكاس للإبادة المستمرة، كما النكبات، وهو ما برز في العناوين التي شكلت بمجموعها "في مدينتي.. في بلدي"، كما في تعرّجات الموسيقى، شكلاً، ومضامين، عبر الإيقاعات المضطربة حتى في سكونها، أو في العوالم الصوتية الثابتة وغير الثابتة في آن.
وتتأمل مقطوعة "في مدينتي.. في بلدي"، شعور مؤلفتها بالوحدة والعزلة في بلدها، بحيث يتألف العمل الموسيقي هذا من تآلف أصوات وترية حادة، في إطار أنماط متكررة، وأنسجة متضاربة، واقتباسات موسيقية تتمازج عناصرها في توليفة موحدة ومتناقضة في الوقت ذاته، تعبيراً عن قصة لم تروَ بعد.
وكأن الموسيقى تحكي على لسان الشلة بأن "كل قصصنا الفلسطينية مشروعة، حتى تلك التي ليست بالضرورة دموية أو تهدد الحياة، حتى تلك القصص التي يحكيها الفلسطينيون الذين لم يولدوا هنا، أولئك الذين تتداخل لغاتهم المتنوعة في كلامهم، أولئك الذين هم أبناء اللاجئين في الضفة الغربية، أبناء الذي عادوا في تسعينيات القرن الماضي بعد عقود من الإبعاد، أولئك الذين لا ينتمون لأي حزب، أولئك النساء المختلفات، اللواتي يصنعن موسيقى غريبة، واللواتي يُقدّرن الحياة فوق أي شيء آخر".
"أنشودة الصبر"، كان عنوان ثالث المقطوعات الموسيقية من تأليف روبن برلتون، الذي كان صوته على مدار العرض الموسيقى برمته أقرب إلى تكوين روحاني ما عابر للأفئدة، وهي المقطوعة التي تفرعت إلى أربع معزوفات موسيقية: "احتقان"، و"رثاء"، و"شرخ"، في حين كانت الرابعة موسومة بـ"أنشودة الرجل الصابر".
ويتساءل برلتون في "أنشودة الصبر" حول ماهية اللحظة التي يتقرر فيها طرح الأسئلة، فتصف "احتقان" ركود المشاعر اليومية، حيث نجد أنفسنا نقاتل شيئاً لا نعرف ماهيته، خاصة حين يتصاعد الغضب دون أن يجد له متنفساً، في حين تألفت "رثاء" من إيماءات ثنائي بسيط في يأسهما الهادئ، بينما شكلت "شرخ" لحظة مفصلية تلتهما الحيرة، في حين تؤكد "أنشودة الرجل الصابر" التي هي أغنية بشكل ما، عن فكرة الصمود، والاستمرار في الحياة في ظل ظروف تزداد سوءاً.
وفي ما تتخلق موسيقى متطرفة، تعاني من شيزوفيرنا ما هي إلا انعكاس لشيزوفرينا الواقع المعاش، ومعايشيه، ينطلق حوار بين الـ"هو" والـ"هي"، حيث ينتزع الكلام من الأفواه، ومن الأرواح المدمرة تحت وطأة الاحتلال وأرض الخراب، ويحط في موسيقى الشلة وبرلتون، ومعها أمين وقيمري، فتخرج موسيقى في مقطوعات تتفرع منها معزوفات موسيقية مشكلة بمجموعها "هذه الأرض الخراب من الحواس".
0 تعليق