بعد حملات إعلامية وطنية تصدرتها «الجريدة» كان آخرها نشرها ملفاً موسعاً عن الحق التاريخي للكويت في خور عبدالله، وفي خطوة حاسمة من داخل العراق لتصحيح مغالطات تاريخية يروّج لها بعض ساسته ووقعت فيها المحكمة الاتحادية العليا وتجاوزت من خلالها صلاحياتها، وجّه رئيس مجلس القضاء الأعلى العراقي فائق زيدان أمس، انتقاداً شديداً نادراً لأكبر الهيئات العراقية وأعظمها نفوذاً، محذراً من أن إلغاء اتفاقية خور عبدالله مع الكويت يرتب تداعيات قانونية ودبلوماسية خطيرة على العراق، وينسف عقدين من العمل الدولي الشاق.
وفي مقال مطول مملوء بالرسائل السياسية والدبلوماسية ومعزز بالأدلة والبراهين والسوابق القانونية الدولية، كتب زيدان أن اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبدالله الموقعة بين العراق والكويت بتاريخ 29 أبريل 2012 تمثل معالجة فنية وإدارية لآثار جريمة غزو نظام صدام حسين للكويت عام 1990، مضيفاً أنها استندت إلى قرار مجلس الأمن رقم 833 لسنة 1993، الذي أكد في مادته السادسة أن الاتفاقية لا تمس الحدود بين البلدين، كما سبق ترسيمها بموجب القرار ذاته الصادر عام 1992.
أي قرار يطلق عليه «عدول» خارج الأطر القانونية خصوصاً إذا مسّ حكماً نهائياً أو صدر عن جهة لا تملك الاختصاص يُعد ملغى من الناحية القانونية
وفي توضيح لا لبس فيه، أوضح زيدان، في المقال، الذي نشرته وكالة الأنباء العراقية وصحيفة الشرق الأوسط، أن الاتفاقية دخلت حيز التنفيذ وأصبحت ملزمة قانونياً استناداً إلى قاعدة «pacta sunt servanda» في القانون الدولي، التي تنص على وجوب احترام المعاهدات والوفاء بالالتزامات. وقد استُكملت إجراءات التصديق على الاتفاقية في مجلس الأمة الكويتي، ما منحها غطاءً قانونياً ودستورياً من كلا الطرفين.
وأكد زيدان أن المحكمة الاتحادية كانت قد ردّت الدعوى المقامة ضد الاتفاقية سابقاً، لعدم استنادها إلى أساس قانوني أو دستوري، ما ثبت شرعية الاتفاقية داخلياً، وحماها من أي طعون لاحقة، وهو ما أسّس لحالة من اليقين القانوني بشأنها على المستويين المحلي والدولي.
وأوضح أن «الاتحادية» لاحقاً اعتبرت القانون رقم 42 لسنة 2013 غير دستوري، استناداً إلى اشتراط تصويت ثلثي أعضاء مجلس النواب، وهو ما يُعدّ سابقة خطيرة، إذ يؤدي هذا المعيار الجديد إلى بطلان أكثر من 400 اتفاقية دولية أبرمها العراق وصُدّق عليها سابقاً بالأغلبية البسيطة، ما يعني عملياً نسف البنية القانونية للاتفاقات الدولية للعراق خلال العقدين الماضيين.
وأشار إلى أن مبدأ العدول القضائي يُعدّ أداة استثنائية بالغة الدقة، وقد حصره المشرّع العراقي بالهيئة العامة لمحكمة التمييز الاتحادية، بموجب المادة (13/أولًا/1) من قانون التنظيم القضائي، واشترط أن يكون العدول على «مبدأ قضائي مجرد» وليس على حكم قطعي، وأن يُحال الملف من هيئة تمييزية إلى الهيئة العامة، مع إصدار قرار معلل يُظهر الحاجة الملحة لذلك العدول، مع عدم المساس بالمراكز القانونية أو الحقوق المكتسبة.
وذكر أن هذا التقييد الصارم هدفه حماية استقرار التعاملات القانونية، وصون مبدأ حجية الأحكام كما نصّت عليه المادة (105) من قانون الإثبات، والحيلولة دون أن تتذرع أي سلطة قضائية بمفاهيم «الإصلاح» أو «التطور» لتغيير نتائج نزاعات حُسمت نهائياً.
وفي هجوم شديد ونادر، نبّه زيدان إلى أن «الاتحادية»، رغم عدم وجود أي نص في الدستور أو في قانون المحكمة يمنحها صلاحية العدول، قد أدرجت في نظامها الداخلي مادة (45) تتيح لها تعديل مبادئها كلما اقتضت «المصلحة الدستورية والعامة»، وهو ما اعتبره خروجاً على الطبيعة الإجرائية للأنظمة الداخلية، وتجاوزاً صريحاً لتدرج القواعد القانونية، حيث لا يجوز للنظام الداخلي أن يمنح المحكمة صلاحيات إضافية لم ينص عليها القانون أو الدستور..
حكم 2014 انسجم مع الدستور والقانون ورسخ اليقين داخلياً وخارجياً والثاني في 2023 سبّب تداعيات لا يُستهان بها
وواصل شيخ قضاة العراق نقده اللاذع للمحكمة، مشيراً إلى أنها لم تكتف بذلك، بل استخدمت هذا النص للطعن بحكم قطعي صادر عنها بتاريخ 18 ديسمبر 2014 يتعلق باتفاقية خور عبدالله، ووصفت نقض الحكم بأنه «عدول»، رغم أن المادة (45) التي استندت إليها تنص صراحة على أن العدول لا يكون إلا عن مبدأ مجرد وليس عن حكم.
واعتبر أن هذا الإجراء مثّل مساساً مباشراً بحجية الأمر المقضي به، وخلق فراغاً تشريعياً واضطراباً دبلوماسياً، لا سيما أن الحكم الملغى كان يُشكل الأساس لالتزام معاهدي مودَع رسمياً لدى الأمم المتحدة.
وشدد على أن أي قرار يُطلق عليه «عدول» خارج الأطر القانونية، خصوصاً إذا مس حكماً نهائياً أو صدر عن جهة لا تملك الاختصاص، يُعد ملغى من الناحية القانونية، ويُلحق ضرراً بالغاً بمبدأ سيادة القانون، ويقوّض ثقة المواطنين والمؤسسات في استقلال القضاء وشفافيته.
وأكد زيدان أن القرار الأول للمحكمة الصادر عام 2014 اتسم بالانسجام الكامل مع أحكام الدستور العراقي وقواعد القانون الدولي، وأسهم في ترسيخ اليقين القانوني داخلياً وخارجياً، بينما القرار الثاني الصادر في 2023 افتقر إلى الأساس الدستوري والقانوني، وتسبب في تداعيات قانونية ودولية لا يُستهان بها.
حكم 2014 انسجم مع الدستور والقانون ورسخ اليقين داخلياً وخارجياً والثاني في 2023 سبّب تداعيات لا يُستهان بها
أي قرار يطلق عليه «عدول» خارج الأطر القانونية خصوصاً إذا مسّ حكماً نهائياً أو صدر عن جهة لا تملك الاختصاص يُعد ملغى من الناحية القانونية
0 تعليق