بدلاً من تلك الأمنيات، وهي في الواقع بديهيات، تفاجأنا قبل بضع سنوات بميلاد شركة جديدة للنقل التلفزيوني بلا أي خبرات سابقة تذكر. شاشة جامدة اشتهرت منذ تأسيسها ببث مقطوعة موسيقية «حزينة» أثناء توقف البث أو أثناء نشر مسميات المعلنين.
في الماضي كنا على الأقل نستمع لمقطوعة موسيقية جميلة مع أهازيج جماهيرية تخرج مع بداية انتقال البث إلى خارج الاستوديوهات.
سبب حسن الظن أن تدخل صندوق الاستثمارات العامة واستقدام نجوم العالم، وبالتالي ارتفاع عدد متابعي دوري كرة القدم السعودي إلى مئات الملايين، يفترض أن يرافقه تحضير ذكي وفني لنقل هذه اللقاءات.
فقرة رياضية عالمية غير مسبوقة تديرها خبرات عالمية لديها باع طويل في تعظيم هذه القوة الناعمة والاستفادة من كل ثانية لهذا الغرض. تحضير يمنح الملايين تجربة فريدة في الشرح والإعادات الآنية وتنوع زوايا الكاميرات لا أن ينتظر المشاهد دقائق حتى يرى الإعادة.
تحضير وبث يظهر لمحات جديدة ولو لثوان قليلة لمعالم متميّزة من المدينة السعودية التي تقام فيها المباراة، وعن التطور المذهل في تلك المدن.
لم يحدث شيء من ذلك. بقيت عدسات النقل لا تبرح المستطيل الأخضر ويتردد المخرج في إعادة الخطأ ولا يعترف بوجود الجماهير أحياناً، ولا يحاول مجرد المحاولة إضفاء أية جماليات من المدرجات ترفع من إثارة اللقاء.
زمن بث المباراة 90 دقيقة للعالم أجمع، وبحضور مئات الملايين من المشاهدين، وهذا يحدث للمرة الأولى لقناة سعودية ما يعتبر فرصة عظيمة لو تم الأخذ بها كقوة ناعمة بالمهنية المطلوبة.
أتحدث عن ظهور لقطات جميلة قد لا يتجاوز زمنها مجتمعة دقيقة واحدة. ماذا سيضر الناقل والمخرج لو عرضت كاميرا «درون» على الهواء أثناء أي لقاء في ملعب «الأول بارك» مثلاً مشهداً حياً لجامعة الملك سعود العريقة التي يعتبر الملعب جزءاً صغيراً منها؟ أو لقطات مختارة ومباشرة لكورنيش جدة في أي لقاء هناك أو جبال أجا وسلمى الجميلة في مباراة من حائل أو مرتفعات السودة الخلابة لأي مباراة في جنوب المملكة. متى ستحظى قناة سعودية بهذا العدد من المشاهدين؟!
في الولايات المتحدة وهم أساتذة القوة الناعمة لا يمكن أن يخلو بث أي مباراة رياضية هناك دون أن نشاهد لقطات قصيرة مختصرة جداً، لكنها حية على الهواء بواسطة كاميرا «درون» لمعالم المدينة التي تقام بها، أو لقطات طريفة ومختارة بعناية للجماهير. هذا طبعاً يحتاج إلى ذكاء وذوق وفطنة عالية وتنسيق دقيق بين الإخراج والتقديم.
هذا ما دفعني أصلاً للإشارة إلى العمل مع محطات أمريكية عملاقة تخصصت في نقل المناسبات الرياضية باحتراف ومهنية. لمَ لم يكن هذا ضمن طموحنا تزامناً مع الرؤية والمشروع السعودي العظيم؟
ظننت في هذا السياق وتزامناً مع البديهيات المذكورة أن تنتقل برامج الرياضة «التحليلية» إلى مستويات فنية ونقدية راقية ومختلفة عن مهاترات السبعينات. أيضاً وفي الغالب الأعم لم يحدث شيء من ذلك. الذي حدث ليس أكثر من عناوين مملة داخل «الحلقة النارية» المشحونة بالميول والتعصب والغثيان.
ظننت أن التعليق الرياضي مع هذه القفزة سينتقل من التعليق الإذاعي القديم قبل التلفزيون، تذكرون المربعات الثمانية، إلى تعليق مختلف. لا يزال التعليق يسير مع الأسف بنمطه القديم والمعلق يجلس وحيداً دون وجود أي خبير فني بجانبه، ويصر على إطلاع المشاهد وبحماس زائد بأن هذا اللاعب مرر الكرة لذلك اللاعب، وكلاهما في منتصف الملعب ولا خطورة تذكر. أصبحت مهارة المعلق الذي لا يمكن بقدرة قادر مشاهدته على الشاشة وهو يتكلم ولو لعدة ثوانٍ ناهيك عن كتابة اسمه مع بدء البث، وكأن ظهوره عورة، أصبحت هذه المهارة تقاس بقدرته على عدم الصمت ولو لثانية واحدة، وبعدد ترديده للفظ الجلالة (الله)، وبعدة نغمات تستخدم عند التسجيل وعند ضياع الفرص. ابتلينا معشر المشاهدين بمدرسة «شمال أفريقيا» القديمة، التي تبنتها بكل ضجيجها محطة رياضية شهيرة للتعليق، وأصبح المعلقون السعوديون التابعون للتابعين القدامى، ولا أعمم، كـ«الغراب الذي أضاع مشيته».
بالمناسبة التعليق على مبارياتنا باللغة الإنجليزية مختلف تماماً، ويغنيك في تحليلاته أثناء النقل الحي عن فقرات ما يسمى بـ«الحالات التحكيمية»، التي أصبحت فقرة رئيسية داخل برامجنا لا تظهر إلا في منتصف الليل.
هناك مبادرات وطنية كبرى نجحنا في تحقيقها، مثل فوز السعودية بتنظيم كأس العالم، وما سيتبع ذلك من إنشاء عدد من الملاعب الدولية القادمة بتصاميم مذهلة. نجحنا في نقل مسابقات «الفورمولا» إلى المملكة وأسسنا رياضات السيدات وغيرها. هل سنقوم بتغطية روزنامة الغد بهذه الصورة الإعلامية الباهتة؟
أما الحديث عن اتحاد كرة القدم وإخفاقاته، الذي أصبح حديثاً مملاً فلا حاجة للخوض بدهاليزه. هذا الاتحاد الذي يفترض أن يتولى زمام المبادرة في كل الملاحظات التي أشرت لها، فشل في تحقيق الإنجازات للمنتخب الأول، حيث لا بطولات إقليمية ولا قارية. في ذات السياق، لم يمر علي وعلى مدار عدة عقود ماضية حالات جدلية تصاحب دوريات كرة القدم كالحالات التي تسبّبت بها لجان هذا الاتحاد المرتبكة في السنوات القليلة الماضية. الغريب ومع كل هذا الإخفاق غير المسبوق في تاريخ الكرة السعودية، لم نسمع عن استقالة أي عضو من هذا الاتحاد، وهذا يوضح مستوى الشعور المتدني مع الأسف بالمسؤولية.
كيف أصبح الاحتفاظ بالمنصب أهم من تحقيق الأهداف والنجاحات للوطن؟
الرياضة فضلاً عن أنها فن وإمتاع وانضباط وحوكمة ومساواة هي أيضاً صناعة، وتعتبر أداة هائلة لتعظيم القوى الناعمة للكيان الذي يحتويها. مع اختتام دوري روشن لهذا العام، كلنا أمل أن نستيقظ من جديد استعداداً للموسم القادم، ونقوم بمراجعة ما تم تقديمه والاستثمار من أجله بالمليارات ونكتشف مناطق القصور والإخفاق ونواجهها بالابتكارات والمبادرات لتصبح متابعة الرياضة السعودية فعلاً وليس قولاً جاذبة ومدرسة جديدة مختلفة عما يدور في منطقتها.
مدرسة سعودية يتحدث عنها الآخرون بذهول وإعجاب بما تحمله من قفزات متنوعة في التغطية والإخراج تملأ شغف المتابع وتتواكب مع القفزات الأخرى في هذا الوطن الذي يبهر العالم كل يوم ويوم.
أخبار ذات صلة
0 تعليق