دردشة مع الكاتب سعيد محمد الكحلوت: النصوص في غزة تركض بي وأركض بها! - الكويت الاخباري

0 تعليق ارسل طباعة

 

حاوره زياد خداش:

 

في عصر الإبادة هذا كيف أستطيع محاورة طبيب نفسي وكاتب في غزة؟ من أيّ شبّاك أدخل إليه؟ وهو الحسّاس والمثقف والعارف بأعماق الغزي وهواجسه وعذابه الداخلي؟.. في بداية حرب الإبادة كتب سعيد محمد الكحلوت نصّاً مخيفاً لن أنساه، حكى فيه عن طبيب في غزة يعرفه جيداً، طبيب كان قبل الحرب كلما لمس الهواء ذهب ليعقم يديه، ويبدي الكحلوت تعاطفه مع هذا الطبيب ويتساءل، بما معناه، كيف ستمشي أموره في هذه الحرب التي صارت فيها الفيروسات أقل أشكال الأذى؟.. وبعد إلحاح مني، لمعرفة اسم الطبيب اعترف أن اسمه سعيد محمد كحلوت، الذي نزح سبع مرات، وهدمت الحرب بيته ومكتبته، ويعمل الآن رئيس قسم التدقيق السريري في الإدارة العامة للصحة النفسية بوزارة الصحة، وفي رصيده أربعة كتب قصصية.. هنا دردشة معه:

* من أي باب ترى غزة؟.. هل تراها من باب الأدب، أم علم النفس، أم الفلسفة، أم علم الاجتماع؟ وإلى ماذا يقودك هذا الباب؟
- غزة مدينة يسكنها بشر عاديون يأكلون ويشربون، ويسيرون في الأرض يتحرّون الحياة من أبوابها المختلفة، ثم يغلقون هذه الأبواب عليهم وينامون ويحلمون شأنهم شأن الناس، لكن الفرق بينهم وبين الناس في أي دولة أخرى، أن قذيفة واحدة يمكن أن تحيل الحالم وأحلامه إلى أشلاء تحت ركام.
إذا انحزت لباب واحد دون بقيّة الأبواب، فقد ضيّقتُ على الناس مداخلهم، وجعلتُ رؤيتي قاصرة، لذلك فإنني أدخل لغزة من باب الفلسفة.. أبحث فيها عن الحكمة، كلما ضلّت خطاي وسط قلق أسئلة الجدوى، وأدخلها من باب علم النفس، لعلّي أفسر السلوك الظاهر والمتوقع للناس في مواقفهم الضاغطة، وما أكثرها هنا، وأعود للدخول من باب علم الاجتماع لأفهم التفاعل الإنساني مع ما يمرّون به من موجات التغيير صعوداً وهبوطاً، وكلما أرادت الحياة الانحدار بي، ارتقيت بي وبها إلى باب الأدب، أفتحه وأسير في أروقته، أنتقل من الواقع القاحل إلى المجاز العامر، أفتح الأقواس وأحشوها بالمعاناة وصراخ الضحايا ثم أغلقها، وأكتب: سينتهي هذا العبث، وأبدأ سطوراً جديدة من الأمل بأن الصفحة القادمة أجمل، وأن ثمة بلاغة قد تعيد الحياة للزهور التي تُحرق صباحاً ومساءً.
* هل غزة مريضة نفسياً؟ أم العالم هو المريض؟ أم نحن؟ وإذا أردنا تصنيفها كجنس أدبي، ماذا تكون؟
- في التواصل الإنساني يوجد ما يعرف بالتوقعات من الآخر الذي يلعب أدواراً مختلفة في حياتنا.. مشكلة غزة في هذه التوقعات، فقد بالغت في التوقعات، واعتبرت أن ما تتوقعه من الآخرين مضمون بنسبة 100%، فكلما وقعت الواقعة قال الجمع إن الحسابات مختلفة.
العالم ليس مريضاً نفسياً، لأن المرض النفسي يعفيه من المسؤولية، لكنه منافق، ينصر الجلاد على الضحية، ومشغول بأشيائه الصغيرة متجاهلاً دماء المدنيين.
أما إذا أردنا تصنيفها كجنس أدبي، فهي جنس مفتوح على الأجناس الأخرى: مسرح لتصفية الحسابات الإقليمية وتجريب الذخيرة الأميركية، وقصة قصيرة عن أطفال يولدون ويقتلون، ثم تتحول إلى رواية جديدة عن حياة أبوين يكسوها ألم الفقدان المزمن.

* آخر سؤال عجيب سألتك إياه ابنتك؟

- كانت "الهليكوبتر" تمشّط الفراغ فوق مخيمنا على ارتفاع منخفض جداً، ثم بدأت بإطلاق سلاحها الثقيل على مخيم مجاور. نظرتْ سلمى، ذات الثلاث سنوات ونصف، إلى الطائرة وسألتني: "كم طفلاً مات الآن يا بابا؟"..
الحقيقة أنني وقفت صامتاً، واكتفيت باحتضانها طويلاً، أُخمد قلق سؤالها والأسئلة التي انفجرت داخلي.

* ماذا عن المرضى النفسيين في غزة؟ هل ينتبه إليهم أحد؟
- بعد تدمير مستشفى الطب النفسي، وهو الوحيد في غزة، وأربعة مراكز للصحة النفسية، ساح المرضى في الشوارع.
تتضاعف معاناتهم مع نوبات الهلع، والاكتئاب، والقلق، والكوابيس، والهلاوس.. بعضهم يجد في الموت راحة، ومن لم ينتحر يحوّل حياته وحياة المحيطين به إلى جحيم.. رغم ذلك نحاول من خلال النقاط الطبية ومستشفى ناصر تقديم الحد الأدنى من الخدمات، لكننا نعاني من نقص حاد في الأدوية والمكان.

* بين اليأس ورفض "مغامرة 7 أكتوبر"، وبين الصمود والمقاومة، أين تقف؟
- أنا أقف بجانب الإنسان الفلسطيني، أنحاز تماماً لمعاناته.. أجد نفسي كاتباً ملزماً أن أكتب، حتى ولو لم يقرأ أحد.. الواقع لن يدوم، وأملي أن ثمة ضوءاً سيأتي من آخر النفق، ربّما يتأخر لكنه آتٍ، فالحقوق قائمة والحساب طويل.

* كم المسافة التي وقف الموت أمامك فيها طيلة هذه الشهور؟ هل رأيته بعينيك؟
- الموت صار لصيقاً بي.. مرّةً كنت أركض حافياً فوق الزجاج حاملاً طفلتيّ، والنار حولي، حتى دخلت مدرسة ونجوت، ومرّةً تسلل إلى السيارة ونحن ننزح جنوباً، شعرت به كحشرات سوداء ذات مخالب تزحف على جلدي، لكنني آثرت الصمت، وفي ليالٍ أخرى اقتحم الغرفة مدججاً بالعدم، لكن الفوضى في الجوار منعته.

* كيف يبدو شكل الموت؟
- لم يكن له شكل واحد.. تارة نار، وتارة زجاج مهشم، وتارة هدوء قاتل في ليل طويل.

* هل بقي شجر في غزة؟
- دمرت الحرب معظم الأشجار، لكن جذورها ما زالت ثابتة تنتظر الربيع، فهي بشارة الحياة والأمل، وجزء من نبوءة لم تتحقق بعد.

* في نصّك "عليّ أن أركض الآن علني أنجو"، هل يركض النص معك أم ينتظرك؟
- النصوص تركض بي وأركض بها، نحن اثنان في واحد كجناحي سنونوة.

* في نص "حارس النوم" قلت: "أجلس متقرفصاً أحرس نوم أطفالي".. من يحرس نومكَ أنت وآباء غزة؟
- منذ أن نصبت الخيمة، أنا حارس النوم وسارقه؛ أحرسه لأطفالي، ويسرقه مني جسدي المتعب. بعض الآباء سقطوا ضحايا هذه المهمة الصعبة.

* قبل الحرب وقّعت كتابك "لا تقتلوا يوسف".. كيف تتذكر ذلك؟
- كان صباحاً بعد ليل طويل، كنت سعيداً وفخوراً، لكن الحرب جعلت الحفل ذكرى بعيدة، كحجرة في سراديب الذاكرة أزورها كلما اشتقت لخبر جميل عن عمل جديد.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق