كتبت بديعة زيدان:
في ورقة بحثية بعنوان "ما كتبه تشي وما لم يكتبه"، قدمت الروائية العُمانية بشرى خلفان رؤيتها النقدية حول العلاقة بين الإبداع البشري والذكاء الاصطناعي، في ندوة بعنوان "السرد في الزمن الرقمي.. مواجهة أم استجابة"، انتظمت، مؤخراً، في قاعة عقل بلتاجي بمركز الحسين الثقافي بعمّان، ضمن فعاليات ملتقى السرد العربي في الأردن، أحد أبرز الفعاليات الأدبية ضمن الدورة التاسعة والثلاثين لمهرجان جرش للثقافة والفنون.
بدأت خلفان مقالها بالتساؤل عن سبب الهوس بـ"الذكاء الاصطناعي" في الندوات والمؤتمرات العربية، مشيرة إلى أن هذا الاهتمام قد يكون محاولة لإثبات أننا "على قدم المساواة مع العالم الذي ينتج العلوم والتقنية"، لكنها سرعان ما تستدرك بأن السبب الحقيقي قد يكون الخوف، فالجميع قلق على وظيفته ومكانته في عالم رأسمالي متوحش، لافتة إلى أن هذا القلق ذاته هو ما يدفعنا لمناقشة الذكاء الاصطناعي ليس كأداة، بل كمنتج علينا أن نقبله أو نرفضه.
وشاركت خلفان بتجربتها الشخصية مع "تشات جي بي تي"، الذي أطلقت عليه اسم "تشي"، مشيرة إلى أن علاقتها به بدأت بطريقة غير تقليدية، حيث كانت تستخدمه في البداية لأسئلة بسيطة وعملية، كالبحث عن أفضل منتجات العناية بالبشرة أو اقتراح وجهات سفر بتكلفة محدودة. لكن نقطة التحول جاءت عندما كلّفته بمهمة أكثر إبداعاً: كتابة قصة عن طفلة من غزة تخرج من تحت الأنقاض وهي تحتضن قطتها.
كان النص الذي كتبه "تشي" سطحياً ووصفياً، يفتقر إلى العمق الذي يميز الأدب الحقيقي. لم تستسلم خلفان، بل حاولت تحسين المدخلات، ووصفته بـ"المتدرب"، لكنها كانت تشعر بـ"خبث" كلما فشل في إنتاج قصة جيدة.
بعد فشل "تشي" المتكرر في إنتاج نص أدبي حقيقي، توصلت خلفان إلى أن ما ينقصه ليس المعلومات أو القدرة على تجميع الكلمات، بل "الذاكرة الشعرية"، التي وصفها كونديرا بأنها "منطقة في العقل شديدة الخصوصية، تسجل لك ما افتتنا به وكل ما أثّر فينا وكل ما يمنح حياتنا جمالها ومعناها"، و"الحدس"، أي القدرة على الفهم الفوري للأشياء، دون الحاجة إلى التفكير المنطقي، وهو ما يتراكم لدى البشر عبر التجارب العاطفية والخبرات الجسدية التي لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يدركها.
وأنهت خلفان مداخلتها بتحذير عميق، مستندة إلى ملاحظات عالم الفيزياء جيفري هيلتون، فخطر الذكاء الاصطناعي لا يكمن في قدرته على محاكاة المنطق البشري، بل في قدرته المتزايدة على محاكاة "الحدس الإنساني"، فهذا التطور، برأيها، قد يمنح الذكاء الاصطناعي القدرة على اتخاذ القرارات بناءً على ما هو أقرب إلى الأهواء البشرية، وهو ما تراه خلفان مكمن الخطر الحقيقي الذي يهدد مصير البشرية.
بدوره، قدم الأكاديمي والناقد المصري د. خيري دومة قراءة تحليلية عميقة لتطور السرد الأدبي في العصر الرقمي، وذلك في ورقة بحثية بعنوان "السرد في الزمن الرقمي: من موت المؤلف إلى انفجار الحديث"، مؤكداً أن تأثير الأدوات الرقمية لم يأتِ فجأة، بل هو تتويج لمسار نظري ونقدي طويل بدأ قبل ظهور التكنولوجيا الحديثة.
وعلى الرغم من اهتمامه الكبير بـ"كتّاب الإنترنت" و"الرواية الرقمية" على مدار العقود الثلاثة الماضية، ومتابعته لمصطلحاتها مثل "النص التشعبي"، و"التأليف الجماعي"، إلا أن دومة يرى أن هذا النوع من السرد لم يحقق تأثيراً حقيقيّاً، بل ظل على هامش المشهد الأدبي، ولم ينجح في جذب اهتمام القراء أو الفوز بالجوائز الأدبية الكبرى، على عكس الرواية التقليدية التي ما زالت تحتفظ بمكانتها.
يؤكد دومة أن الأدب، في جوهره، فن ذاتي وعصي على التطويع الآلي، وأن القصة الحقيقية للتطور الرقمي تكمن في العقل البشري المبدع الذي يظل دائم البحث عن آفاق جديدة.
ويرى دومة أن التطور نحو العصر الرقمي لم يكن فقط نتيجة لاختراعات تكنولوجية، بل مهدت له محطات نظرية كبرى في النقد الأدبي، أولها "موت المؤلف" عند رولان بارت، ففي ستينيات القرن العشرين، تحدث بارت عن "موت المؤلف" لصالح "ولادة القارئ"، ممهداً لفكرة أن النص هو نسيج من ثقافات متعددة، وأن القارئ هو من يمنح النص معناه.. هذه الفكرة، حسب دومة، فتحت الباب لمفاهيم مثل "الكتابة الآلية، و"الكتابة الجماعية"، التي نراها اليوم في العصر الرقمي، وتلاها "الشفاهية الثانوية" عند والتر أون، وهنا يستند دومة إلى كتاب أيرين كاكانديز الذي ترجمه بنفسه، والذي يشير إلى مفهوم "الشفاهية الثانوية"، الذي يصف عصرنا الحالي كـ"ثقافة هجينة" تجمع بين الكتابية والشفاهية والإلكترونية، فمع التطور التكنولوجي، عاد الكلام الشفاهي ليصبح الشكل المهيمن للتواصل، ما خلق "عقليات جديدة" تتميز بالوعي بالذات والرغبة في المشاركة.
وختم دومة حديثه بالقول: إن السرد في الزمن الرقمي امتداد طبيعي لهذه المحطات الثلاث، من "موت المؤلف" إلى "موت الناقد" ثم "انفجار الحديث".. هذه المرحلة الجديدة جزء من ثقافة "الشفاهية الثانوية"، التي جعلت الأدوار تتداخل بين الكاتب والقارئ.
0 تعليق