للسينما دور رئيسي في توثيق الكوارث الإنسانية، ليس فقط كطريقة لسرد الأحداث أو توثيقها، بل كوسيلة لتحليل التجارب وربطها بالوعي الجمعي في سياق الأزمات الإنسانية في مختلف أنحاء العالم، مثل ما يحدث اليوم في غزة. ففي مثل هذه اللحظة، تصبح العودة إلى الأفلام التي تناولت الحصار والإبادة والمجاعات، وسيلة ضرورية لفهم الحاضر من خلال أزمات الماضي.
فيما يلي، نستعرض بعض الأعمال السينمائية الروائية والوثائقية، التي لا تكتفي بنقل المعاناة فحسب، بل تطرح أسئلة أخلاقية وإنسانية عن المسؤولية العالمية، وتمنح الضحايا صوتا ضد النسيان.
1- فيلم "أشباح رواندا" (Ghosts of Rwanda)

يعتبر فيلم "أشباح رواندا" (Ghosts of Rwanda) الصادر سنة 2004، من أهم الوثائقيات التي تناولت الإبادة الجماعية في الدولة الواقعة في وسط أفريقيا عام 1994. تلك الجريمة التي راح ضحيتها ما يقرب من 800 ألف شخص خلال 100 يوم تقريبا. يقدم الفيلم سردا إنسانيا مؤلما للأحداث من خلال شهادات الصحفيين، والدبلوماسيين مثل الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان، ووزيرة الخارجية الأميركية السابقة مادلين أولبرايت، وبعض مسؤولي الإغاثة، بالإضافة إلى شهادات بعض الناجين من المجزرة.
لا يكتفي "أشباح رواندا" بعرض الجرائم، بل يفتح ملف التهاون الدولي، خاصة موقف الدول الكبرى والأمم المتحدة التي اختارت الحياد وعدم مناصرة المظلومين، حسب وجهة نظر صنّاع الوثائقي.
كما يتناول الفيلم مفهوم الإبادة الجماعية التي ارتكبت ضد أقليات التوتسي على يد الهوتو، وسط تواطؤ النظام الحاكم آنذاك. خاصة أن الإبادة كانت بدعم غربي لأسباب جيوسياسية، مع تخاذل الدول الكبرى رغم علمها الكامل بما يحدث، بالإضافة إلى بعثة الأمم المتحدة التي كانت حاضرة وقتها، لكنها كانت مقيدة بتفويض محدود ولم يسمح لها بحماية شعب كامل من مجزرة جماعية.
2- فيلم "عنبر الجوع" (Hunger Ward)

يرصد الفيلم الوثائقي "عنبر الجوع" (Hunger Ward) الجانب القاسي المروع من الحرب في اليمن، والمجاعة التي فتكت بالأطفال في صمت. ويعد الفيلم الجزء الثالث من "ثلاثية اللاجئين"، وقد ترشح لجائزة الأوسكار لأفضل فيلم وثائقي قصير عام 2021.
إعلان
تدور أحداث الوثائقي في مركزين لعلاج سوء التغذية الحاد، ويتتبع الأحداث اليومية في حياة طبيبتين يمنيتين، تحاولان إنقاذ الأطفال في ظل انهيار شبه تام للنظام الصحي. ولا يوجد بالفيلم سرد أو تعليق صوتي، لكن المهمة الأكبر للكاميرا التي تنقل المعاناة بالكامل، مع مشاهد قاسية لأجساد الأطفال الهزيلة في أحضان أمهات عاجزات.
لا يكتفي "عنبر الجوع" بعرض مآسي الحرب، بل يعرض أساسها السياسي، والجهات التي تدفع من أجل استمرارها، من خلال وجهة نظر إنسانية، لا يمكن للعالم تجاهلها، ويطرح سؤالا قاسيا وهو: هل يمكن تسييس الجوع؟
3- فيلم "مقابر بلا اسم" (Graves Without a Name)

يتأمل فيلم "مقابر بلا اسم" (Graves Without a Name) للمخرج الكمبودي ريثي بان، ذاكرة الإبادة الجماعية التي حدثت في كمبوديا أثناء حكم "الخمير الحمر"، والتي أودت بحياة ما يقرب من مليوني شخص في سبعينيات القرن الماضي. ولا يسرد الفيلم المجازر التي حدثت بصورة مباشرة، لكنه يتخذ منحى شخصيا إنسانيا، إذ يتتبع رحلة المخرج في البحث عن قبر والده المفقود، محاولا العثور على أي أثر له، في أراض متخمة بالمقابر الجماعية التي لا تحمل أي أسماء.
مزج بان بين الشهادات الشخصية والمشاهد الصامتة والتأملات البصرية، ليثير تساؤلات حول الذاكرة والغفران، ومفهوم العدالة في غياب الحقائق المثبتة
ولم يقدم "مقابر بلا اسم" إجابات، لكنه طرح أسئلة لا تزال شائكة حتى الآن، ووضع المشاهد في مواجهة المأساة الشخصية لإنسان يبحث عن الاعتراف بوجوده ووجود والده ليشبه الفيلم طريقة لمقاومة النسيان.
4- فيلم "حقول القتل" (The Killing Fields)

يُعد "حقول القتل" (The Killing Fields) من أهم الأفلام الروائية التي تناولت جريمة الإبادة الجماعية في كمبوديا تحت حكم "الخمير الحمر"، مستندا إلى قصة حقيقية للصحافي الأميركي سيدني شونبرغ وزميله الكمبودي ديث بران، اللذين عملا على تغطية الأحداث الدامية التي دارت في كمبوديا بعد السقوط في قبضة النظام الشيوعي عام 1975. ومن خلال العلاقة القوية بين الصديقين، يعرض الفيلم أخلاقيات مهنة الصحافة، وكيف أن للحقيقة ثمنا باهظا في زمن الكذب.
ويقدم "حقول القتل" تجربة بصرية تؤكد على الخوف والعزلة، وينقل المشاهد عبر المشاهد المروعة للمجازر والمجاعات التي ارتكبت داخل معسكرات "إعادة التثقيف" التي كانت تعتبر جزءا من مشروع متطرف لتحويل المجتمع إلى يوتوبيا شيوعية زراعية، لكنها في الواقع كانت أماكن لتعذيب المعتقلين جسديا ونفسيا وإجبارهم على الاعتراف بجرائم مفبركة.
حصل الفيلم على 3 جوائز أوسكار، من بينها أفضل ممثل مساعد للممثل الكمبودي هاينغ إس. نور، الذي نجا فعلا من المجازر ولعب دور بران، ما أضفى على الفيلم واقعية نادرة.
وتُستعاد هذه الصور في قطاع غزة اليوم، حيث يعيش المواطنون الفلسطينيون وعمال الإغاثة وأفراد الطواقم الطبية والصحافيون تحت القصف، والحصار محاولين إظهار الحقيقة، في عالم لا يتوقف عن تكرار أخطائه السابقة.
0 تعليق